مع الفشل الذريع في إنجاز المهام النضالية الموكلة إليهما، وعدم إمتلاكهما أي رؤية سياسية تحررية بالمعنى الشامل للكلمة، وتمسكهما بحل يعلم القاصي والداني أن اسرائيل قد أطلقت رصاصة الرحمة عليه، أي حل الدولتين العنصري، وعجزهما عن استثمار التضحيات الهائلة للشعب الفلسطيني، بما فيها تلك التي قدمها العديد العديد من كوادرهما، وحالة التوهان التي وضعا القضية الفلسطينية بها في السنوات السبع الأخيرة من خلال ما يسمى بالانقسام بين شطري البانتوستان الذي أُحتل عام 1967 وأصبح يسمى "بالوطن"، يتحتم مراجعة ممارسات حركتي فتح وحماس في عملية نقد جذري تتخطى خطابات المديح الذاتي السائدة، ووضع علامات استفهام حول قدرتهما على قيادة الشعب الفلسطيني إلى مبتغاه من حرية وعدالة ومساواة غير مجزأة.
فمن خلال ترسيخ فكرة إقامة مؤسسات الدولة-الوهم قبل التحرر، والشروع بانتخابات برلمانية لثلث الشعب الفلسطيني، مع ادعاء عدم التخلي عن الثلثين الآخرين، وتصنيم فكرة الاستقلال على حساب التحرير وخلق مجموعة من الرموز والألقاب التي ترمز إلى سيادة شكلية، تحت سلطة فعلية للاحتلال العسكري المباشر، والقناعة المفرطة في سذاجتها أن قطاع غزة المحاصر قد تم "تحريره"، شاركت الحركتان في بناء مملكة من الأوهام مدعومة بتيار سائد من الوعي الزائف الذي يتبناه كوادرهما بشكل إيماني مطلق يستطيع أن يتنقل بسهولة غريبة بين ثنائيات متناقضة من حالات "تخوين" و"تكفير" و"اقصاء" إلى "أخوة" و"شراكة" و"وحدة!"
ومع غياب البديل الثوري الضروري في حالة شعب يمر بمرحلة تحرر وطني ونضال ضد أشكال متعددة من الإضطهاد العنصري المبني على أيدولوجيا الاستعمار الاستيطاني التي تنفي وجود الآخر بشكل كامل من خلال عملية تطهير عرقي وممارسات تلامس الابادة الجماعية، كما يحصل في غزة وبشهادة المقرر الخاص للامم المتحدة في الأراضي المحتلة ريتشارد فولك، ومع حالة الإنكار الهائلة لدى الطرفين لحالة التدهور التي أوصلا القضية الفلسطينية لها، يتحتم على الجميع خلق حالة نقدية بناءة تقوم على أسس ديمقراطة وتقوم بكشف الوعي الزائف، الذي هو بالضرورة نتيجة حتمية لسنوات أوسلو العشرين وما خلقته من أوهام تعبر عن مصالح طبقية ضيقة، و7 سنوات من الانقسام العمودي بين شطري "الوطن-البانتوستان" وأسلوة الحركة الوطنية والاسلامية، وأنجزة اليسار العلماني.
تظهر أزمة الفصيلين في فلسطين كجزء من أزمة النخبة السياسية التي سلَّمت بـ"قدرية وجود اسرائيل"، وتالياً ضرورة التعامل معها ككيان طبيعي، حتى في حالة رفض الاعتراف بها والتباهي بذلك، ورغبة عارمة في البقاء ضمن المعادلة السياسية القائمة، وإن مثَّلت انقلاباً على النضال من أجل الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني كما كفلتها الشرعية الدولية، وفي مقدمتها حق عودة اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم، ذلك الحق الذي تحول الى "إيجاد حل عادل لقضية اللاجئين"، و/أو هدنة طويلة الأمد لمدة 10-20 سنة بعد إقامة المعزل العرقي الموعود، وما يعنيه ذلك من تجميد للنضال والتغاضي عن حقوق مكونين رئيسين من مكونات الشعب الفلسطيني.
لكن أزمة معظم القوى والشخصيات المنتمية إلى هذين الفصيلين لا تقتصر على هذا الانحياز الفاضح أحيانا، والمغلف أحيانا أخرى، لاتفاقيات أوسلو التطبيعية من خلال مأسستها في مجلس تشريعي، حكومات، رئاسة، والأخطر هو تشكيل أجهزة أمنية تعمل على حماية الفصيلين في الضفة وغزة. بل أن هذه الأزمة انعكست في الخطاب السياسي السائد من خلال تعاطي هذه القوى والشخصيات ودفاعها المستميت عن حل الدولتين العنصري الذي يصغر الشعب الفلسطيني إلى سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، بما يتناقض مع الأسس الرئيسية والمبادئ التي عبر عنها الخطاب التحرري الفلسطيني في أوقات سابقة.
وكل هذا انعكس في الوعي الزائف الذي ساهمت هذه القوى والشخصيات في صياغته والذي يتمحور حول تحسين شروط الاضطهاد واعتبار ذلك إنجازاً وطنياً هائلاً، وصولاً إلى حل الدولتين على، أو في، حدود ال67, بل اعتبار ذلك تجسيداً "للمشروع الوطني الفلسطيني" بغض النظر عن حقي العودة والمساواة.
وقد أدى أداء كلا الفصيلين اليمينيين إلى خلق حالة من تراجع، والى حد ما فقدان، المعايير التي يمكن أن تخلص الشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاث من أشكال الاضطهاد الصهيوني المركب، مما خلق حالة من الوعي الزائف تُوجت بالانقسام الثنائي وبداية فقدان الهوية الفلسطينية الجامعة وسيادة شعور بالاغتراب الاجتماعي والسياسي لدى العديد من فئات الشعب.
كنت في مقالة سابقة قد كتبت أن اللحظة التاريخية التي تمر بها القضية الفلسطينة تتطلب قيادية نيلسون مانديلا و كاريزما جمال عبد الناصر وثورية تشي أرنستو جيفارا وعناد ستيف بيكو ومبدئية يباتريس لومومبا وتواضع هيوجو تشافيز وانسانية المهاتما غاندي ووعي إدوارد سعيد النقدي. وهذا بالضبط ما تفتقده الحركة الوطنية الفلسطينية الآن تحت القيادة الثنائية للفصيلين الحاكمين في الضفة الغربية وقطاع غزة/ شطري "الوطن-البانتوستان!"